لم أرَ دمشق كئيبة كما رأيتها هذه المرة. هدوء حزين يخيم على شوارعها وأزقتها. أصوات الناس باتت خفيضة، مكسورة، مقهورة، بالكاد تخرج. وفي الصوت الخفيض، ثمة حياء وإحساس بتأنيب الضمير. صوت الموت يغطي على كل الأصوات. يبتلعها ويتلاعب بإيقاعها فتبدو خافتة، بائسة. مثلها مثل ملامح الوجوه الكئيبة. حتى العراك حول أسطوانة غاز يدور بالأعين والإشارات. كأنه مشهد مسحوب الصوت. يتخاطفون الأسطوانة الزرقاء، بصمت. في نظراتهم، ما يدلّ على الشجار. لكنهم صامتون.
ساحة الأمويين، تعبرها سيارات قليلة. والساحة الشهيرة تبدو وحيدة أكثر من أي وقت مضى. الشاشة الضخمة المزروعة على إحدى أطرافها، تبث برامج الفضائية السورية. الشاشة أيضاً تبدو وحيدة. تبدو خارج الزمان والمكان. كقطعة أثرية في متحف الفن الحديث. والعابرون، لم تعد تعنيهم تلك الشاشة. لا يلاحظونها ربما. يمرّون بصمت دون أن يستديروا برؤوسهم باتجاهها. وجبل قاسيون، تنوس أضواء بيوته ومطاعمه وتتلاشى وراء ستارة من الغبش.
وتنتابني غصّة عميقة. وأشعر أن المدينة تخلو رويداً رويداً من سكانها. يتركونها وحيدة ويرحلون. إلى باريس أو دبي أو اسطنبول أو عمّان أو بيروت. ويحزنني رحيلهم. وهل تستحقهم مدينة أخرى غير دمشق. ثمة من استسلم باكراً. رحل بعد أشهر قليلة. ولم يكتف بالرحيل. صار يصرّح ويكتب ويتحدث وكأنه موجود هنا. الناس تموت وهو يكتب عن موتهم. الناس تعتقل وهو يحكي قصص اعتقالهم. لكنه ليس هنا. إنه هناك. في مدن بعيدة. هواؤها عذب. ناسها مرتاحون. شوارعها نظيفة. مملوءة بالحياة. الناس تقتل هنا وهو يحيا هناك ويتحدث عن معاناتهم. لا بل ويطالبهم عبر صفحات الفيس بوك وعبر المقالات السياسية، بالنزول إلى الشارع بكثافة، بالهتاف، بالعصيان، بالإضراب، بالتمرّد. دون أن يعبر ذهنه ربما إحساس خاطف بتأنيب الضمير. دون أن يفكر بما تحمله تلك الدعوات من أنانية مفرطة. فكيف لمن يعيش هناك، أن يطالب الناس هنا بالنزول إلى الشارع. النزول إلى الموت. إلى الاعتقال والاختطاف والانتقام. بعضهم لا علاقة تربطه بالسياسة. يطلّ علينا عبر إحدى الفضائـيات، متأنّقاً، شعره مصفف بعناية، وربما تفوح منه رائحة عطر هفهاف. ينظّر في السياسة. وآخرون يتجمعون صفاً إلى جانب صفّ، في البرد يهتفون ويغنون تحت وطأة اللحظة. في أي لحظة قد تخطف روح واحد منهم.
بعضهم يطالب بحظر جوي وآخر بتدخل خارجي وثالث بإضراب عن الطعام. بأي حق يطالبون بأمور مصيرية كهذه؟ وهم بعيدون وليسوا مبعدين. يحق لأي إنسان أن يبتعد ويخاف التهديدات ويهرب بروحه لفترة من الزمن. لكن مجرد ابتعد خطوة عن حدود "الخوف"، لم تعد ربما تحق له مطالبة هؤلاء الشجعان، بما يودي بهم إلى مزيد من الهلاك. أرواح الملائكة التي رفضت الخروج، والتي اختارت البقاء هي الأحق بتقرير مصيرها وبتنظيم مواعيد خروجها. هي الأولى بإعادة البناء. هي التي اختارت البقاء، قد يستفزّها خروج البعض. ذلك الخروج المتكبّر. "اخرجوا إلى الشوارع وثوروا وقاتلوا وقاوموا وموتوا". ونعدكم بأن نتحدث عنكم في المقابلات والحوارات والجلسات الخاصة. نعدكم بألا تغيبوا عن أذهاننا ولا للحظة واحدة. نعدكم بأن نمنح أطفالنا وأحفادنا أسماءكم.